سورة الكهف والمُرْتَكَز العَقَدِيّ بين الولِيّ والدَّعِيّ
سورة الكهف
والمُرْتَكَز العَقَدِيّ
بين الولِيّ والدَّعِيّ
الحمد لله الوليِّ الحق، والصلاة والسلام على لسان الصدق،
أما بعد؛ فإن الناظر في سورة الكهف؛ يجد أنها ترتكز على محور عَقَدِيّ تنتظم عليه مشاهد السورة؛ ألا وهو:
إثبات أن الله هو الوليّ الحق
ويتضح ذلك جليًّا من ملاحظة تكرُّر اشتقاقات مادة - و ل ي - بالسورة الكريمة:
- {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (٧١)
- {مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ} (٦٢)
- {هُنَالِكَ ٱلْوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ} (٤٤)
- {أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّۢ} (٠٥)
- {أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِىٓ أَوْلِيَآءَ} (٢٠١)
* معنى مادة(و ل ي) اشتقاقًا واصطلاحًا:
معنى الاشتقاق: لزوم الشيء شيئًا آخر مع عدم وجود حائل أو حاجز بينهما.
وعليه فالمعنى الاصطلاحي لولاية العبد للربّ: هي ملازمة العبد لوحي ربّه -أمرًا ونهيًا وتصديقًا-، وإقباله بكلّيته على الله -عز وجل- مع صدق التوكّل عليه، وحسن الظنّ به، وتمام الثقة فيه سبحانه.
وحينئذ يتولاه ربّه سبحانه بحسن رعايته، وتمام وقايته، ومطلق كفايته -وهو معنى ولاية الربّ للعبد-.
فتية الكهف وآثار الولاية:
١- {أَصْحَابَ الْكَهْفِ}:
وهذه الجملة هي مطلع التعريف بهم وبقصتهم، فَعُرِّفَت كلمة "الكهف" بـ"ال"، وجاءت "أصحاب" منكرة، إشارة إلى أن هذا الكهف الذي هو موضع الاستيحاش، ومظنة هجوم المخاوف، ونزول المتالف؛ صار عَلَمًا على وَلاية الله -عز وجل-، وآية من آيات رعايته وعنايته، حتى أصبح بسِرِّ هذه الوَلاية الإلهية محلّ الأمان، ومجمع الإيمان والاطمئنان..
وهذا المعنى هو ما أشارت إليه لفظة "لَوَلَّيْتَ" من قوله سبحانه {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} لأن الله تولَّى رعايتهم وحمايتهم، فلا يستبيح فِنَاءَهُ طالب، ولا يغشى حِماهُ طامع أو مُغالِب.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نَمْ؛ فالمخاوف كلهنّ أمانُ
٢- {وَتَرَى الشَّمْسَ}:
وتظهر آثار تلك الوَلاية الإلهية في آية الشمس {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} وتلاحظ نسبة الفعلين "تَزَاوَرُ" و"تَقْرِضُهُمْ" إلى الشمس، مما يؤكّد أن للشمس إدراكًا وحسًّا، فهي تولِّيهم عنايتها، وتخشى عليهم من حرارة أشعتها، فإذا بها تتمايل عن كهفهم إذا طلعت، وتَعدِل عن مباشرة أجسادهم إذا غربت، ولا عجب فـ{ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّه} ولم لا!! وهم من أولياء الله !!!.
٣- {بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ}:
ويسجل القرآن بجلاله وجماله هذه الكلمة {بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ} من تحاور الفتية، لعمق دلالتها في الكشف عن رسوخ إيمانهم، وصدق توكلهم، وتمام وثوقهم بوَلاية ربهم لهم.
فـ"هذه": اسم إشارة للمفردة المؤنثة، إذًا هؤلاء الفتية عند اعتزالهم لقومهم، ووَدْعِهم (تركهم) لآلهتهم، لم يكن في حوزتهم سوى تلك العملة الواحدة "هذه"، ومع ذلك لم يرُعْهُم، ولم يقلقهم، ولم يفزعهم أمر قُوتِهم ومَعاشِهم، ولم يسطِّر القرآن على أحدٍ منهم أنه اغتمّ لذلك أو اهتمّ له لا قبل خروجهم ولا بعده.
وكيف لمثل هذه الهواجس والوساوس أن تتسلّل إلى صدورهم؛ وقد قال الله جل جلاله {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} فهي مستودع الإيمان، ومُتَنَزَّلُ السكينة، وموطن الاطمئنان، فلا مدخل بعد هذا الرَّبط للشيطان، ولا وسيلة لِبَثِّ مخاوف إيعاد الفقر، فقد دخلوا بهذا الربط في ضمان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
٤- {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}:
ومما يلفت النظر: أن غالب الشخصيات المحورية بالسورة، لم تُعَيِّن السورة أسماءهم، بل ألمحت إليهم بصيغة التنكير، التي تفيد العموم "{أَصْحَابَ الْكَهْفِ}، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ}، {مَثَلا رَجُلَيْنِ}، {قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ}، {عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ}" إشارة إلى أن ولاية الله -عز وجل- ورفد كراماته ليس حِجرًا على أحد بعينه؛ بل متى عَوَّلُتَ عليه، ولجأت إليه، واعتصمت بحبله، ولُذُتَ بجنبه، متنزها عن موجبات غضبه وعقوبته، وهارباً من مواضع سخطه ونقمته؛ أطاعتك الأمور بأعِنَّتِها، وانقادت لك المطالب بأَزِمَّتِها، واضعة يديها في يديك، ومقبلة بأسباب وصلها إليك.
* صاحب الجنتين وتقطع الأسباب:
ثم تعرض السورة قصة صاحب الجنتين لتقرر أنّ من ركن إلى ما سوى الله يقطع به أحوج ما يكون إليه، فإن صاحب الجنتين ما قال ما قال إلا وثوقا منه بماله، وركوناً إلى عزة نفره وعياله.
فلما اعتمد على ما لديه، وكله الله إليه {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}.
ومن ثَمَّ جاءت كلمة المؤمن لصاحبه تصحيحًا للاعتقاد، وتجريدًا للاعتماد {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
فلا قوة بذاتك .. لا قوة بثرواتك .. ولا قوة بأهلك وخلانك .. ولا قوة بأتباعك وسلطانك .. {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۞ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ۞ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ۞}.
۞ وبعد هذه المشاهد من الرعاية، ودلائل أحقية الله بالولاية، وبيان أن المتخذ من دول الله أولياء قد اعتمد على سراب، وآل أمره إلى الخراب - بعد هذه المشاهد يأتي التفريع بالتقريع لمن طُمِسَت بصيرته، واستحكمت ضلالته، حتى اتخذ عدوه وليًا؛ فيقول سبحانه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلً}
۞ ثم يأتي استفهام الختام -في ضوء هذا المُرتكز العقدي- بصيغة الإنكار ليفيد الإقرار ببطلان دعوى من اتخذ من دون الله وليا ولو كان مَلَكًا أو نبيًا؛ يزعم أنه ينجيه من بأس الله، أو ينيله مثوبة الله {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ}، وهو نظير نذير قوله في مطلع السورة {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدً}، وهكذا تلتقي خاتمة السورة ببدايتها إثباتًا لعقيدة أن الله هو الوليّ الحق.
۞ نور الكهف وأثر الولاية:
ولما كان الإخراج من الظلمات إلى النور؛ هو أحد الآثار الكبرى لولاية الله لعباده المؤمنين {ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ} البقرة 257.
ولما كان تقرير هذه الولاية الإلهية هو المحور الرئيسي لسورة الكهف..
تجلَّى من خلال هذا الأثر وهذا التقرير السِّر في كون سورة الكهف تضيء لصاحبها زمانًا -مابين الجمعتين- ومكاناً -ما بينه وبين البيت العتيق- وهكذا يلتقي النص القرآني باللفظ النبوي شاهدًا لقوله ﷺ "ألا إني أوتيت القرآن ومثله ومعه"، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
ثم أعلم -تولاني الله وإياك- أن أولى الخلق بولاية الحق هم أهل هذا الكتاب، قال الله -جل جلاله- {قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ۞ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ۞} أولئك أهل الله والصفوة الملا.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنهلك، ولا تكلنا إلى غيرك فنضيع، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الإنابة إليك، وتمام اليقين فيك...
اللهم أنت الصمد، منك المدد، وعليك المعتمد، ولاحول ولا قوة إلا بك وصلّ اللهم وسلم وبارك على خير من ركع وسجد، وقام وهجد، وشكر وحمد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
نديم فرج خطاب
Comments
Post a Comment