سورة الكهف ومنهج التزكية (١٧) العجلة داء الأحسنية

سورة الكهف ومنهج التزكية (١٧)
العجلة داء الأحسنية

 
الحمد لله الذي لا تستعجله عجلة عجول...
والصلاة والسلام على النبى الرسول...
وبعد؛

يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(٧) [الكهف: ٧] فالعبد مطالب في أعماله بتحقيق الأحسنية لا  بإهتار الأكثرية، ومن أعظم أدواء التحقق بهذا المقام (العجلة).
والعجلة: هى طلب أخذ الشىء قبل وقته أو أوانه.
فالعَجِلُ لشدة حرصه على الشىء بمنزلة من يأخذ الثمر قبل أوان إدراكه وينعه، ولهذا قال رسول الله «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» وكون العجلة من الشيطان لأن الشيطان خلق من نار، ومن صفات النار الخفة والطيش اللتان هما صفة للعجول، لذا جاءت الشريعة بذم العجلة، وبالنهى عنها في صنوف العبادات، لأنها نصيب الشيطان من فعل العبد، وبها يدخل عليه الفساد في ذوات أعماله وأفعاله.
 
ففي الوضوء.. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ  مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» (صحيح الإمام مسلم)
 
وفي الصلاة .. يقول رسول الله «إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ» ... فالسكينة بمثابة الحصن والحرز الذي يصون العبد عن التلهي في أثناء عبادته، كما أن من دخل في العبادة عجلا لن تنفك عنه عجلته حتى يخرج منها، فيفوت عليه مثوبتها وأثرها المرجو منها.

ولما تعجل الرجل في صلاته؛ قال له النبى «ارجع فصلِّ، فإنك لم تُصَلِّ» وفي ذلك بينة ساطعة على أن العجلة منافية ناقضة للإحسان، بل محبطة للعمل برُمَّتِه.
 
وفي الحج .. عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ  يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ  وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ» -صحيح الإمام البخاري- / (زجرا شديدا) صياحا لحث الإبل على السير، (البر) الخير، (بالإيضاع) هو حمل الدابة على إسراعها في السير.

وفي الدعاء.. يَقُولُ رَسُولُ اللهِ «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي» ... وكفى العجلة شؤما أن كانت حجاب الإجابة.
 
وفي تلاوة القرآن.. قال الله عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا(٣٢) [الفرقان: ٣٢] أى نزلناه على الترتيل وهو ضد العجلة، ويَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» وقال الله سبحانه: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا(١٠٦) [الإسراء: ١٠٦]... على مكث أى على ترسل في التلاوة ورزانة؛ لأن العجلة حجاب التدبر والفقه.. قال الله جل شأنه: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(١٦) [القيامة: ١٦] وقال: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ  وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(١١٤) [طه: ١١٤]
 
والعجلة عقبة النصر.. فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَال َJ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (صحيح الإمام البخاري)

وفي الأخبار .. يقول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ  وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ  وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(٨٣) [النساء: ٨٣]

قال الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى-: (هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها؛ فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال سبحانه: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. 

وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟

ثم قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم).  انتهى
 
ولقد امتدح الله هؤلاء الذين يمشون الهوينى في ترفق وتثبت، بل وجعلها أُولَى صفات عباده؛ لأنها جالبة لكل خير، دافعة لكل ضير، فقال سبحانه: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ....(٦٣)[الفرقان: ٦٣] وهو ترك العجلة المفرطة، وترك التكاسل والتثبط والتماوت، ولكن بين ذلك، 

قال الغزالي –رحمه الله تعالى-: الاستعجال هو الخصلة المفوتة للمقاصد، الموقعة في المعاصي، ومنها تبدو آفات كثيرة، وفي المثل السائر: إذا لم تستعجل تصل.. ومن عَجِل فَشِل.
وقد قيل: من استعجل أخطأ أو كاد؛ لأن العجلة تحمل على عدم التدبر والتأمل وقلة النظر في العواقب؛ فيقع الخطأ، ومن ثَّم قيل: إنما تكون الزلة من العجلة.

قال 
وقال الله عز وجل لنبيه  : ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ  وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ(٦٠) [الروم: ٦٠] لأن الخفة أثر من آثار العجلة المنافية لسمت الراسخين الموقنين، ولذا قال الله جل جلاله عن اللعين فرعون: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(٥٤) [الزخرف: ٥٤] ولا يُسْتَخَفَّ إلا هلوع جزوع عجول.
ولما أرسل رسول الله J على بن أبي طالب رضي الله عنه لخيبر قال له: «انفذ على رِسْلِكَ» أى: امضِ على رفقك من غير عجلة، لأن ذلك يدل على الثبات والشجاعة، ويدل على رجاحة العقل وحسن التأمل، بخلاف الطيش والركض ورفع الأصوات؛ فإن هذا يدل على الجبن وعدم الثبات.

۞ قال الإمام الزمخشري في قوله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ  سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(٣٧) [الأنبياء: ٣٧]:
(فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة). انتهى
۞ ومن أشأم آثار العجلة حب العاجلة، وقد انتهز الشيطان طبع العجلة في الآدمىّ؛ فوعده بالغرور، واستغواه بحبائل الأمانىّ، وكره إليه المصير للآخرة، ولذا قال رسول الله «السَّمْتُ الحَسَنُ وَالتُّؤدَةُ وَالاقْتِصَاد جُزْءٌ مِنْ أرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ» -حسنه الشيخ الألباني-

قال الإمام المناوي في فيض القدير: (السمت الحسن والتؤدة) التأني والتثبت وترك العجلة (والاقتصاد) في الأمور بين طرفي الإفراط والتفريط (جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة)أي هذه الخصال من شمائل أهل النبوة وجزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها إذ ليس معناه أن النبوة تجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال صار فيه جزء من النبوة لأنها غير مكتسبة أو المراد أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعى إليها الأنبياء أو أن من جمعها ألبسه الله لباس التقوى الذي ألبسه الأنبياء فكأنها جزء منها.
 
۞ تَأَمُّلٌ في حكمة الشريعة ورحمتها:
من تأمل في الكفارات المغلظة ككفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان؛ التي يكون الدافع إليها والموقع فيها هو العجلة وعدم ضبط النفس، والضعف عن كبح الانفعال، شرع فيها الصوم شهرين متتابعين، لما في الصيام من خصيصة عظيمة في ردع النفس عن التهور والعجلة والاندفاع، وإكساب من لازمه فضيلة الصبر ومكرمة الحلم والتأني، مما يعينه على الروية والتبصر في أمره؛ مما يجلب له كل خير، وحسبك من الشرف قول رسول الله Jلأشج عبد القيس : « إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة».

قال الخواص: العجلة تمنع من إصابة الحق.
فالأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة.
ومن ركب العجل أدركه الزلل.
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
 
فاللهم إنا نسألك بما لك من حقية الحمد
وبالصلاة والسلام على سيد الخلق
أن تفرغ علينا صبرا 
وأن تجعل عاقبة أمرنا منك غفرانا وشكرا
اللهم اكفنا كل القواطع.. واصرف عنا الفتن الشواغل
واقطع اللهم دابر الحاسد والعدو والحاقد
واكفناه بما شئت
أنت حسبي ونعم الوكيل
وصل اللهم وسلم وبارك على كامل النور
والحمد لله الغفور الشكور
 
 

Comments

Popular posts from this blog

مقاسات الورق للطباعة الأوفست والديجيتال Paper Sizes