سورة الكهف ومنهج التزكية (٦ بصيرة في الحمد (٣)
الحمد لله ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت ربنا من شىء بعد،أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد...
والصلاة والسلام على رسول الحمد، المبعوث بالوعيد والوعد، الحائز لمراتب السعد...
وبعد؛
فإنَّ تصدير الحديث عن المعتقد في أول سور الكتاب المتمثل في الحمد؛ هو عنوانُ كمالٍ في المحمود، وعنوان حبٍّ من الحامد، لبيان ما ينبغي أن يكون عليه الاعتقاد من الوهلة الأولى... عنوانُ حبِّ منك أثمرته المعرفة ... ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسۡتَقِيمٍ(٤٥)﴾ فالعلم مقدمة الإيمان، والإيمان وُصْلَة للإخبات الذي هو قمة الاطمئنان، ومنزلة شهود وعيان، لذا كان أول ما نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ(١)﴾ وكرر الأمر بقوله ﴿ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ(٣)﴾ لأن القراءة وسيلة العرفان؛ والعرفان مقدمة للإيمان؛ وبالإيمان يحصل الاطمئنان ويتحقق العيان.
وَلِيَعۡلَمَ .... فَيُؤۡمِنُواْ .... فَتُخۡبِتَ
۞ ولذا لما كان الحمد شعار التوحيد والعرفان، وعنوانَ الاعتراف بكمال المحمود، وعنوان الحب من الحامد؛ جاء الأمر بقوله في مواجهة أهل الجحد والنكران ﴿ وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ(٦٣)﴾ [العنكبوت: (٦٣)]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(٢٥)﴾[لقمان: ٢٥]، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(٩٥)﴾ [النمل: ٥٩]
۞ ومن هنا كان الحمدُ أحقَّ ما قاله العبد، ففي صحيح الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: « رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ».
۞ ولما كان الحمد لا يصح إلا من عارف، كان أصدق الحمد وأكمله وأبلغه قول نبىِّ المحامد صلى الله عليه وسلم: «لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»، لأن من المحال أن يحيط مخلوق علما بذي الجلال، وليس أعلم بالله من الله، لذا كان أصدق الحمد والثناء وأشمله وأجمعه ... أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ ...
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: يا من غاية معرفته القصور عن معرفته.
فالعجز عن الإدراك إدراك.
۞ ولذلك نفى اللهُ سبحانه إدراكَ كُنْهِ ذاتِه جل وعلا بقوله ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ﴾ ولم ينف رؤيته، وفرق بين الرؤية والإدراك، فالإدراك إحاطة علم، والرؤية لا تقتضي الإحاطة، ومحال أن يحيط مخلوق بالخالق؛ لا إدراكا ولا رؤية، لذا كانت رؤية أهل الجنة لربهم رؤية نعيم وتلذذ، لا رؤية إحاطة وإدراك.
قال الإمام الألوسي في روح المعاني: (الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة، وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس «لا تدركه الأبصار»: لا يحيط بصر أحد بالله تعالى).
۞ ولما كان الحمد مُتَعَلَّقَهُ المعرفة، جاء في حديث الشفاعة قول النبى صلى الله عليه وسلم: " فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ"، وفي رواية: " فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي"، وفي أخرى "فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ"...فتحضره صلى الله عليه وسلم هذه المحامد لأجل مشهد التجلي، وهو أعظم مقامات العرفان.
۞ وفي الحديث دلالات منها: أن الحمد أفضل الدعاء؛ كما في الحديث الذي رواه الإمامان الترمذي وابن ماجه بسند حسن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " لأن الحمد فيه التعريض بالمسألة مع التفويض؛ ثقة بحسن اختيار الله للعبد، فالمصرح بالطلب قد قصر مسألته على حد طلبته، أما الحامد فمتعرض لعظيم فيض مولاه فضلا عما لأجله رجاه، لذا كان الحمد ألطف ما يكون من الأدب في باب الاستمداد والطلب، كما أن الكريم يغنيه التلويح عن التصريح.
۞ ولذا قال الإمام ابن عيينة حين سئل عن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) قيل له: أفهذا دعاء؟! قال: بلى، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء .
۞ وقد وردت الإشارة بهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(٥٦)﴾ [غافر: ٥٦]، فحضهم على الدعاء بقوله
﴿فَادْعُوهُ﴾ ثم دلهم على أرفعه بقوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
وهو معنى قولنا في الصلاة: سمع الله لمن حمده، أى استجاب الله لمن حمده، لذا شرع دعاء القنوت بعده –والله أعلم-.
لذا لما سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « عَجِلَ هَذَا » ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كُلُّ أَمْرِ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَقْطَعُ».
وَقَدْ لُقِّبَتْ خُطْبَةُ زِيَادِ ابْن أَبِي سُفْيَانَ -الَّتِي خَطَبَهَا بِالْبَصْرَةِ- بِالْبَتْرَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَتِحْهَا بِالْحَمْدِ، إذ الحمد هو الوُصْلَةُ الوُثْقَى، والغايةُ العظمى.
۞ والحمد أعظم وسيلة يتوصل بها العبد لرضوان الله الأكبر، فعند الإمام مسلم في صحيحه أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»، ووجه ذلك كون الحمد دليلا على عرفان العبد بأن الله هو المنعم بتلك النعمة، الموجد لها، فحمده لربه علامة على إيمانه ورضاه عن مولاه، وفي الحديث «فمن رضى فله الرضا»، وما من نعيم في الجنة أكبر من رضوانه سبحانه، قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(٧٢)﴾، أى: أكبر من نعيم الأنهار والقصور، ومن التلذذ بصنوف الفواكه والحور، ففي صحيح الإمام البخارى: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا »
۞ ويلتقي مطلع السورة المتمثل في الحمد مع مقطعها الاختتامي من جهتين:
الأولى: أن في استفتاح سورة الكهف بالحمد مع ختمها بذكر جنة الفردوس إشارة إلى أنه ما من مقام أعلى من مقام الحمد، وما من رتبة أعلى من رتبة الحامدين، لذا رصدت له أعلى المثوبات، وأبهى الجنات - جعلنا الله وأهلنا من أهلها-.
الثانية: أن في خاتمتها التعريف بمعنى الحمد وصورته؛ المتمثل في قوله سبحانه:
﴿... إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا(١١٠)﴾، إذ الحمد كما تقرر: معرفة، ومحبة، وتحرك عن اختيار (الانقياد طواعية).
فالمعرفة متمثلة في قوله –سبحانه-: ﴿أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ﴾...
والمحبة متمثلة في قوله -جل شانه-: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ﴾...
والتحرك عن اختيار متمثل في قوله -تقدست صفاته وفعاله-: ﴿فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا(١١٠)﴾...
فاللهم يا حميد ... يا حميد ... يا حميد
نسألك بأن لك الحمد
-ثقة بك وتفويضا لك-
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين
Comments
Post a Comment